
بعد انتخابه حبْـراً أعظم ، شاء البابا لاوون الرابع عشر ، وفي أولى زياراته الخارجية ، أن يختار لبنان ليحمل منه السلامَ والرجاءَ الصالح لبني البشر .
والبشر في القرن الواحد والعشرين يعيشون عصرَ التخلُّف والوثنيات ، يسيرون خلف الجنائز الإلهية والحضارية والثقافية في دولٍ ترسِّمُ حدودَها بالـدم .
أَليسَ غريباً ، أنْ تكون البشريةُ قبلَ ظهور الديانات السماوية ، تتمتَّعُ بقسطٍ وافـرٍ من السلام وصفاءِ العيش ، حتى أنّ اليونان والرومان على تعدُّدِ آلهتهم ، كانوا يتحلّون بدرجة عاليةٍ من التسامح الديني منذ القرن الثالث قبل المسيح ، وكان شعار سياستهم الدينية : "عِـشْ أنتَ وعلى غيرك أن يعيش" .
وكيف يمكن مع الرسالات السماوية ، وخلال قرنين بعد المسيح أنْ يصبح شعار السياسة الدينية : عِـشْ أنتَ وعلى غيرك أن يموت .
كيف يفهم المسيحيون قولَ المسيح : "سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم"(1) .
وكيف يفهم المسلمون أنّ لفظة الإسلام مأخوذةٌ من السلام .؟
"السلام في القرآن ، هو الله .."(2)
"وأبناء الله في الإنجيل هم فاعلو السلام"(3)
خسيء الذين قالوا إنهم أبناء الله المختار ، وكأنهم يجعلون من الله أباً وثنياً لهم ، وإلـهاً يرتكب معهم المجازر من سماء المسيّرات .
وماذا بعد ..؟ هل سيظل المسيحيون في هذا الشرق يعانون أقسى ألوان الإضطهاد ، على ما كان في العصر الفارسي والعربي والعثماني ، مثلما لم يكن الصراع المسيحي في الغرب بين البروتستانت والكاتوليك أكثـرَ رحمةً ورأفـة .؟
وهل سيظلّ الصراعُ في الإسلام ضـدّ الآخر وضـدّ الذات ، بما وصَفـهُ المفكّر السياسي الأميركي : "صموئيل هنتنغتون" ، في كتابه "صراع الحضارات" بأن "حدود الإسلام هي حدودٌ دموية" .؟
وهل ستستمرّ الحروب التاريخية ضـدّ السلام الذي هو الله ، منذ أن بدأت بين الإغريق وداريوس الفارسي ، واستمرَّت بين البيزنطيين والمسلمين ، وبين البابا والأمبراطور ، والخليفة والخليفة ، وبين السلطان والسلطان يتذابحان وراثياً لاحتكار حكم السلطنة ...؟
وحَـده ، هذا الأنموذج الفريد الذي إسمه لبنان ، يحقق الخلاص الأممي من صراع الأديان والمذاهب والأعراق ، لو أننا عرفنا كيف نحافظ عليه رسالةَ حضارةٍ وسلامٍ لنا ، وللعالمين .
لعلنا نستيقظ أخيراً بفعل صفْعتين : صفعة الدم على يـد الحرب ، وصفعة السلام على يـد البابا .
لم يجتمع اللبنانيون متضامنين : لا تحت سقف الدستور ، ولا تحت سقف الحرب ، ولا تحت سقف السلم ، مثلما اجتمعوا متضامنين تحت سقف السلام البابوي .
هذه الظاهرة اللبنانية الرائعة التي انطلقت باستقبال حاشد من الضاحية الجنوبية ، وكشافة المهدي إلى مقام القديس شربل في عنايا ، تجسّد حقيقة الواقع الشعبي المعيوش ، خلافاً للواقع السياسي المنشطر .
وخلافاً للقراءة السطحية لخطاب البابا في القصر الجمهوري ودقَّـةِ مضمونِـه، لقد استطاع البابا أن يعبّر عن مختلف التوجهات اللبنانية لدى المسيحيين ، والمسلمين والمسؤولين ، وتحديداً الجنوبيين ، إذاً إقرأوا معي قولَـهُ : "أنتم شعبٌ لا يستسلم ، يقف أمام الصعاب بشجاعة ، صمودُكم علامةٌ مميزة ، والإلتزام بالسلام لا يعرف الخوف والإنهزام".
بهذين السطرين إِختصر المشكلات ، واقترح العلاجات ، وأوصى مَنْ يتحمّلون المسؤولية بأن يضعوا أنفسهم في خدمة الشعب ، ولا ينفصلوا عنه ."
لعل هذا اللقاء الحميم الذي جمع رؤساء الطوائف مع البابا يشكّل مجْـمَعاً وطنياً يستوحي إآـه القرآن والإنجيل ، بما عبّـر عنه الإرشاد الرسولي "بأنَّ الذي بنى جداراً بينه وبين الآخر سوف يعيش هو خلف الجدار" .
وبما عبّـرتْ عنه "وثيقة الأخوَّة الإنسانية" الموقّعة من البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب ، "بأن الأديان لم تكن بريداً للحروب" وبوحيٍ من الآيـة التي أطلقها الإمام علي بن أبي طالب والتي اعتمدتها الأمم المتحدة ، رسالةَ وحدةٍ عالمية بأن "الناس صنفان : إمّا أخٌ لكَ في الدين ، وإمّا نظيرٌ لكَ في الخَـلْق" .
لعل هذا اللقاء الروحي الجامع ، تُشكّلُ فيه الكلمةُ السواءُ ابتهالاً إلى الله ، لأنـه لم يعد لنا من أمل إلا الإستنجاد بأهل السماء خلاصاً من شرّ أهل الأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يوحنا : 14 ـ 27 2 ـ سورة الحشر القرآنية : 23 3 ـ متى : 5 ـ 9 .
عن جريدة الجمهورية
بتاريخ : 13/4/2025