أخبار ساخنة

كلامٌ على أَلْسنةِ الطير


بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم

          ...كلّما التقطنا القلم ينْـتابنا الهـمُّ والإرتباك ونكرّر السؤال : علامَ نكتب ، ولماذا نكتب ولمن ..؟ حتى بتنا نخجل بما نسبِّب للأقلام من إرهاقٍ بلا جدوى .

          الكتابة لا تُجدي مع العقل الملوّثِ بالجهل ، وإنّ أبـرز ما جعل الإنسان ينتقل من عصر البدائية إلى المدنية هي الكتابة .

          كتبنا .. ونكتب ويكتبون ، وإنّ ما كتَبوهُ وكتبنا لـو تقطَّر منه حبـرٌ على صخر لكان انْشَطر .

          لقد جمعنا ما استطعنا من القرائن والبراهين والبيِّنات عن أنبياء وفلاسفة وحكماء وأدباء وعلماء سياسة واجتماع ، لعلّهم يقرأون ويتبصَّرون ، فكنّا كمَـنْ يكتب بالرمل على الرمل وكلاماً في الليل لهارون الرشيد .

          ورأينا ، بعـد البحث والتنقيب في المراجع الأدبية والفكرية والتاريخية ، أنّ أفضل ما نلجأ إليه هو كتاب "كليلة ودمنـة" لإبـن المقفّع ، لعلّ الذين لم يفهموا الكلام الذي تتناقله ألسنة الأقلام ، يفهمون ما تنطق بـهِ ألسنة الطير والبهائم .

          مع أننا نعتقد أنَّ أهل السياسية عندنا ، لم يسمعوا بهذا الذي إسمه إبـن المقفّع ، ولا بـما كتب في "كليلة ودمنـة "والأدب الكبير" "والأدب الصغير ..." ولا تعنيهم كـلُّ أنواع الأدب في المطلق : لا الأدب الفكري ولا الأدب السياسي ولا الأدب الأخلاقي .

          إلاّ أن حكمة إبن المقفّع تظـلّ عندنا الأقرب إلى أهل الحكم ، فهو من أصل فارسي واكبَ العصر العباسي وقاد حركة "الإصلاح والتغيير" على لسان الأخوين "كليلة ودمنة" المختلفينِ في مذاهبهما ، فكان يواجه الفساد والظلم ويوجّـه إلى الملوك والحكام رسائل في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق والإرشاد السياسي .

ولأنّ زمانه كمثل زمامنا وكان يخشى مغبّة انتقام الحكام ، راح يطلق العظاتِ والحِكَـم على ألسنة الطير والبهائم بما يشبه المآسي الأخلاقية ، ورأى أنّ حاجة الناس إلى الآداب والأخلاق أشـدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب .

          في باب الأسد وإبـن آوى والحمار ... والثور والسنَّور ، والقرد والثعلب والأرنب : يستخلص إبـن المقفّع : "أنّ على الملوك ألاّ يفضّلوا أقاربهم وأهلَ خاصتهم ولا أغنياء الناس وذوي القوة منهم ، ولا يمتـنعوا عن صنع المعروف إلى أهل الضعف والفاقة ..."

          ويتضح من حوارات أهل الغاب ، أنّ الخلفاء يميلون إلى الغدر من جرّاء سوء الظنّ الذي يوقعهم بـه رجال المساعي الخبيثة ... وأنّ الأسد الذي قـرّب الثعلب إليه وإئتمنه على أسراره وشاوره في أموره ، إنتقل إليه مرض السلطة .. وهو داء فتّاك يصعب الشفاء منه ...

          إذا كان المثل المأثور يقول : خذوا الحكمة من أفواه المجانين فهي من أفواه الطيور والبهائم أصدق ، على أن يتّعظَ بها الناس ، وبـدل أن تقتدي الدولة العباسية بما جاء في "كليلة ودمنـة" لإنقاذِ نفسها ، فقد قادها الجنون إلى قتل إبـن المقفع إنتقاماً بأمـرٍ من أبي جعفر المنصور ، فاستشرى فيها الفساد وساد حتى الإنهيار .

          رحمة الله على إبـن المقفع وهنيئاً للبهائمِ والطيور .